هذا ليس بحثًا تقليديًّا ك بحث عن الصحة النفسية في السعودية، ولا دراسةً مكتوبة بعبارات التشخيص والتقارير. بل هو محاولة لفهم لحظة إنسانية دقيقة: تلك اللحظة التي يجل فيها الإنسان، متعبًا، مُنهكًا، فلا يجد من يُنصت له… فيتجه إلى Google ليكتب: “تعبت”… “ما لي خلق”… “ودّي أختفي”.
لا يسأل عن طبيب. لا يبحث عن جلسة. بل يبحث عن صيغة لوجعه، عن اعتراف رقميّ لا يعرف إن كان سيقرؤه أحد، لكنه يشعر بشيء من الراحة لأنه قاله – حتى لو كان الكلام في صمت.
في “استرحت“، لم نبدأ هذا التقرير بفرضية أكاديمية، بل بتساؤل بسيط: متى يكتب الإنسان ما لا يقدر على قوله؟
ولأننا نؤمن أن محركات البحث باتت اليوم مِرآة صادقة لما يعتمل في داخل الناس، جمعنا 100 كلمة وعبارة منتشرة بين السعوديين، ما بين الفصحى والعامِّيّة،ورصدنا سلوك البحث حولها طيلة 12 شهرًا، متتبِّعين أين ترتفع، ومتى تشتد، وكيف تتغيّر.
ما ستَقرؤه هنا ليس تقريرًا إحصائيًّا جافًّا، ولا دراسة أكاديمية مغلَقة، بل محاولة لِفهم الإنسان حين لا يجد مَن يَفهمه.
بحث عن الصحة النفسية في السعودية: كيف استخدمنا Google Trends لقراءة الحالة النفسية الجماعية؟
في “استرحت“، لم نبدأ هذا التقرير بسؤال تقنيّ أو فرضية مسبَقة، بل بدأناه بتساؤل بسيط: متى يكتب الإنسان ما لا يقدر على قوله؟ للإجابة، اعتمدنا على تحليل بيانات Google Trends على مدار 12 شهرًا كاملًا (من مارس 2024 إلى مارس 2025)؛ لرصد الكلمات والعبارات التي يستخدمها السعوديون عند التعبير عن حالاتهم النفسية، سواء بالفصحى أو العامِّيّة.
تم تنفيذ الخطوات التالية:
1) جمع قائمة أوَّليّة من 100 كلمة وعبارة، تُستخدم عادة في التعبير العاطفي، مثل: “تعبت”، “ما لي خلق”، “اكتئاب”، “قلبي ثقيل”، بناءً على:
- تحليل محتوى شبكات التواصل.
- استبانات داخلية مع كُتّاب ومختصين نفسيين.
- مراجعة المحتوى التَّوعَوي المنشور عربيًّا.
2) استخدام أداة Google Trends لرصد حجم البحث عن كل عبارة في السعودية، وتتبُّع:
- الذروة الزمنية لكل عبارة (الشهر/ الفصل).
- التوزيع الجغرافي حسب المناطق الإدارية.
- العبارات المرتبطة المصاحِبة لها.
3) تحليل سلوك المستخدمين، ومقارنته بسلوكيات رقمية مكمّلة على تويتر، من خلال مراجعة تغريدات عامّة، منشورة بمعرّفات مستعارة، تعبِّر عن الضيق النفسي بصيغة غير طبِّيّة.
حين يختلف الحزن من مدينة إلى أخرى: ما يقوله جوجل عن خريطة الألم في السعودية:
على الرغم من أن الألم شعور فردي، فإن تكراره في منطقة دون أخرى، قد يكشف عن نمط جَمعي لا يُقال بصوتٍ عالٍ.
ففي تحليلنا لسلوك البحث، ظهرت فروق جغرافية لافتة تستحق التأمل، لا بصِفتها معلومة، بل بصِفتها نافذة على ضغوط قد تختلف من مدينة إلى أخرى.
مدينة مكة المكرمة تصدَّرت قائمة المناطق التي بلَغَت فيها بعض الكلمات ذروتها. كلمات مثل: “احتراق وظيفي”، و”قلبي ثقيل”، و”ما لي خلق”، تكرَّرت هناك أكثر مِن غيرها، وكأن سكانها لا يَشكُون الحزنَ فقط، بل يَشكُون الضغط أيضًا؛ الضغط المرتبط غالبًا بالازدحام، ومَوسمية العمل، وربما بالإحساس المتزايد بالواجب.
في المقابل، جاءت جازان بصفتها أكثر المناطق التي ارتبطت بكلمات الانسحاب الداخلي، مثل: “تعبت”، و”اكتئاب”، و”ما أبي أحد”، فكلها كلمات ظهرت بكثرة في هذه المنطقة؛ مما يوحي بأن الألم فيها لا يُقال بحِدّة، بل يُخبَّأ وراء صمت طويل.
المنطقة الشرقية، التي جاءت ثالثًا، ارتبطت أكثر بعبارات القلق وضِيق الصدر. أما الرياض، فعلى الرغم من حجمها وعدد سكانها، فإنها لم تتصدَّر في أيٍّ من الكلمات الـ100؛ مما قد يشير إلى توزيع سلوكي أوسع، أو تفضيلات لُغوية مختلفة في التعبير عن الضيق.
هذه الفروق ليست مجرد أرقام، بل إشارات مِجهرية، تكشف كيف أن جغرافيا الألم النفسي لا تسير دائمًا حسب عدد السكان، بل حسب عُمق ما لا يُقال.
الحزن لا يأتي فجأة… بل في مواسم: أشهُر السَّنة التي يبحث فيها السعوديون عن كلمات التعب النفسي:
يظن الناس أن الحزن طارئ، يأتي فجأة ويمضي، لكن البيانات تُخبِرنا بأن للحزن مواسم، فله أوقات مفضَّلة، يعود فيها بهدوء، كضيف ثقيل يعرف الطريق إلى القلب.
في تحليلنا الزمني، برز شهر أبريل بوصفه الشهر الأبرز الذي ترتفع فيه مؤشِّرات البحث عن كلمات مرتبطة بالضيق النفسي،
أربعُ كلمات بلَغَت ذروتها خلاله، مِن بينِها: “تعبت”، و”ما لي خلق”، و”قلق”، و”اكتئاب”.
وعلى الرغم من أن أبريل لا يرتبط بأيّة مناسبة مباشرة، فإنه من أكثر الشهور ازدحامًا في حياة السعوديين: نهاية فصل دراسي، واقتراب الامتحانات، وتغيُّر الفصول، وبداية حرارة الصيف.
أما رمضان، فعلى العكس مما يُتوقَّع من شهرٍ روحي، قد شهِد هو الآخَر ذروة في كلمات مثل: “ما لي خلق” و”الاكتئاب الذهني”، ربما لأن الجهد المضاعَف، وتغيُّر الإيقاع اليومي، والضغط العائلي والاجتماعي، يكشف ما يظنه البعض ساكنًا في النَّفْس.
الصيام لا يُغلِق جروحًا مؤجَّلة، بل قد يسلِّط الضوء عليها.
شهر ديسمبر، الذي يرتبط عالميًّا بالحزن الموسمي، لم يسجِّل ارتفاعًا لافتًا في الكلمات؛ مما قد يشير إلى اختلاف السياق النفسي في السعودية، أو إلى طرق تعبير مغايِرة لا ترتبط بتغيُّر المناخ وحده.
وبينما تَمُرّ الشهور على التقويم، تَبقى هذه الكلمات شاهدة على لحظات لم تُرْوَ…تُكتَب بهدوء على لوحة المفاتيح، في ساعة متأخِّرة من الليل، حين يظن الإنسان أن لا أحد يراه… سوى جوجل.
بين “تعبت” و”اكتئاب”: حين تختلف لغة الإنسان عن لغة التشخيص:
لا يبحث الناس عمّا تقوله الكتب، بل عمّا يَشعرون به. وهذا الفارق بين اللُّغة المعلَّبة في المقالات الطبِّيّة، وتلك الخارجة من قلب مكسور، هو ما يُضيء التحوُّل اللُّغوي الذي رصدناه في بيانات Google.
الكلمات الأكثر بحثًا لم تكن “اكتئاب”، أو “قلق”، أو “اضطراب نفسي”، على الرغم من تكرارها في الإعلام والمحتوى التَّوعَوي، بل كانت كلمات مثل: “تعبت”، و”قلبي ثقيل”، و”ودّي أختفي”، و”ما لي خلق”، عبارات يومية، عفوية، لكنها مشحونة بعاطفة لا تقل وجعًا عمّا تصِفه المصطلحات الطبية.
هذا لا يعني أن الناس لا يفهمون معنى الاكتئاب، بل يعني أنهم حين يكتبون ما يشعرون به دون خوف من الحكم، لا يستخدمون القاموس، بل يستخدمون لغتهم الحقيقية.
في فجوة كهذه، لا يجدُر بنا تعليم الناس كيف يتكلمون، بل يجدُر بنا نحن أن نتعلم كيف نَفهمهم. مَن يكتب “ما أبي أحد” لا يقول ذلك لأنه لا يفهم “العزلة الاجتماعية”، بل لأنه وجد تعبيرًا أقرب لحالته مِن كل ما كُتب عنها.
والأخطر أن هذا التحوُّل اللُّغوي لا يُلاحَظ في العيادات أو المحاضرات، بل في البيانات الصامتة التي تُجمَع مِن خَلْف الشاشات؛ بيانات لا ترفع صوتها، لكنها تحمل صوتًا آخر؛ صوت مَن لم يجد مَن يَفهمه بلُغته.
السلوك العاطفي الرقمي: حين يكون الصمت هو طلب المساعدة:
ليست كل كلمة تُكتب في خانة البحث دليلًا على ما نحتاج إليه، بل أحيانًا تكون مِرآة لما نَتجنَّب أن نَطلُبه.
عبر تتبُّع العبارات المرتبطة بالحالة النفسية، ظهر نمط لافت لا يُقال عادة في المقالات الطبِّيّة: السعوديون، حين يتألَّمون، لا يطلبون حلًّا، بل يصِفون حالهم، ثم يغادرون.
كلمات مثل: “ما أبي أحد”، “ودّي أختفي”، “ما لي خلق”، كانت الأكثر شيوعًا. في حين أن عبارات مثل: “طلب استشارة نفسية”، “جلسة علاج”، “رقم طبيب نفسي”، لم تَظهر في أعلى نتائج البحث، ولم تُسجِّل ذروات تُذكَر.
هذا النَّمط لا يعني أن الناس لا يحتاجون إلى المساعدة، بل يعني أنهم لا يعرفون الطريق إليها، أو لا يثِقون بمَن في نهايتها.
وهذا – في جوهره – أخطر من المرض نفسه.
حين يكتب الإنسان “تعبت”، فهو لا يُخبرنا فقط بما يَشعر، بل يُخبرنا ضِمنيًّا أنه لا يعرف كيف يعبِّر عنه بطريقة تُوصِله إلى حل…هو لا يريد مقالًا، ولا منشور توعية، ولا محاضرة على يوتيوب…هو يريد أن يَشعر بأن ما يَشعر به طبيعي، ومسموع، ومفهوم.
كما أشار الدكتور عقيل الشخص، استشاري الطب النفسي، في مقابلة تلفزيونية حديثة، إلى أن 34٪ من السعوديين يعانون من اضطرابات نفسية، وأن ربعهم بحاجة فعلية لتدخل علاجي متخصص، مؤكدًا أن: “الاضطرابات النفسية أصبحت ترندًا في الفترة الأخيرة بسبب الأعباء اليومية وتشتيت الانتباه المستمر.”
في السلوك الرقمي، هناك لغة أخرى لا تُقرأ بحَرفها، بل بما غاب منها. ولعل ما غاب من كلمات “طلب المساعدة” هو الرسالة الأهم في هذا التقرير.
هذه النتيجة تتقاطع مع ما أكّده الدكتور عقيل الشخص، الذي وصف الاضطرابات النفسية بأنها أصبحت ترندًا صامتًا، لا بسبب التوعية، بل بفعل ضغط الواقع وتسارع وتيرة الحياة.
يُنصح بقراءة مقالنا التحليلي عن انهيار الصمت: حين ينفجر الإنسان من الداخل ولا يسمعه أحد.
السلوك العاطفي الرقمي: حين لا يجد الإنسان طريقه في جوجل، يذهب إلى تويتر:
ليست كل كلمة تُكتب في خانة البحث دليلًا على ما نحتاج إليه، بل أحيانًا تكون مِرآة لما نتجنّب أن نطلبه.
في Google Trends، ظهرت العبارات الأكثر بحثًا في السعودية، محصورة في وصف الحالة النفسية لا في محاولة علاجها: “تعبت”، “ما لي خلق”، “ودي أختفي”، “قلبي ثقيل”، كلمات تفيض شعورًا، لكنها لا تسأل عن حل. في حين أنه غابت تقريبًا عبارات مثل: “طلب استشارة نفسية“، أو “حجز جلسة علاجية”، كأن المستخدم يكتفي بأن يبوح، ولا يواصل الطريق إلى المساعدة.
لكن هذه الحكاية لا تنتهي عند محرك البحث…فالذي لا يجد في جوجل مساحة كافية ليُفرِّغ ألمه، ينتقل إلى فضاء آخر أكثر سيولة، وأقلّ مطالبةً بالهوية: تويتر.
هنا، في تغريدات الأسماء المستعارة، تتحوَّل المشاعر إلى يوميات عامّة،والبَوح يصبح علنًا، لكن بلا عناوين ولا توقيع.
حسابات مثل: @yearsoffea7 تعبِّر عن مشاعر الكتمان، والانسحاب، والرغبة في الاختفاء، لا بمنشور تَوعَويّ، بل بجُملة تنزِف صِدقًا مثل: “أحاول أعيش طبيعي بس دايم شي ناقص”.
وهي جملة لو وُضعت ضمن بيانات Google، لكانت ضمن كلمات التقرير.
هذا الانتقال من جوجل إلى تويتر لا يُلغي ما سبقه، بل يُكمله، ففي السلوك الرقمي السعودي، تبدأ القصة غالبًا بكلمة تُكتَب في العتمة، ثم تُقال — أخيرًا — علنًا، لكن بلا اسم.
ما رصدناه من سلوك بحثي على Google لا يمكن عزله عن الواقع الصحي العام. فقد كشف المسح الوطني السعودي للصحة النفسية (2019) أن 34% من السعوديين يعانون من اضطرابات نفسية، لكن 83% من أصحاب الحالات الحادة لا يسعون للعلاج. بل إن شخصين من كل خمسة شباب يحملون هذا الألم دون تصريح.
هنا، تتلاقى الأرقام الصامتة مع العبارات الهمسية مثل ‘تعبت’ و’ما لي خلق’، لتصوغ معًا خريطة وجعٍ لا تُقال، بل تُكتب تحت جنح الليل… ويقرأها جوجل.
خلاصة القول: حين تصبح البيانات مِرآة للوجع الصامت:
هذه الكلمات التي استُخرِجت من بين سطور Google Trends، ليست مجرد مؤشِّرات بحث، بل هي في حقيقتها خريطة ألَم مجتمعية، تُكتَب يوميًّا على لوحة المفاتيح، في صمتٍ يُشبه الصلاة، دون يقين بأن أحدًا في الطرف الآخر يُصغِي.
كلّ “تعبت” كُتِبت على جوجل، هي جملة غير مكتملة، تبحث عن مَن يُنهيها… وكلّ “ما لي خلق” ليست تعبيرًا عن مزاج عابر فقط، بل عن جدار داخلي بدأ يعلو بين الإنسان ونفسه… وكلّ “ما أبي أحد” ليست رفضًا للعلاقات، بل صيحة لا تجد مَن يفسِّرها كما يجب.
في “استرحت”، لا نرى في هذه البيانات أرقامًا توجِّه الحملات الإعلانية، ولا فُرصًا لِبناء منتج رقمي فقط… بل نراها دعوة إلى فهم الإنسان بلُغته، لا بلُغتنا.
فمَن أراد أن يصنع فَرقًا في الصحة النفسية، فإنه لا يحتاج فقط إلى محتوى، بل إلى إنصات، ومَن أراد أن يسمع الناس، فعليه أن يتعلم كيف يتكلم حين يصمتون.