من بين كل الأسباب التي جعلتني أفكر: ما الخطأ الذي ارتكبته حتى لا تكون حياتي كما أريد؟
لم يكن الغضب من ضمن الخيارات أبدًا، إذ أعتبرته جزءًا طبيعيًا من تكويني، ووسيلة دفاع وهجوم متأصلة في النسيج السلوكي لمجتمع يعيش تحت مظلة دول العالم الثالث.
لكن كلما تقدمت خطوة في معرفة الذات، فهمت أن تخلف العالم الثالث لا يكمن في التأخر العلمي والتكنولوجي فقط، بل يمتد إلى مستوى أعمق، وهو التخلف العاطفي؛ أي عجزنا عن فهم مشاعرنا والتعبير عنها بالطرق الصحيحة.
ومن بين هذه المشاعر التي كشفت هشاشتي النفسية كان الغضب في مقدمتها، الذي لم أكن أعبر عنه بطريقة صحية، وإنما بطريقتين شائعتين وهما:
- الانفجار غضبا ظنا مني أنه شجاعة والطريقة الوحيدة للرد بقوة.
- كبت الغضب الذي تحول إلى وحش داخلي يتغذى على صحتي النفسية والجسدية.
والشائع لا يعني بالضرورة أنه الخيار الوحيد، وقد كلفني هذا الاعتقاد سنوات وخسارات في حياتي المهنية والشخصية، تعلمت خلالها كيفية إدارة الغضب، الذي جنيت ثماره العظيمة على جوانب عدة من حياتي.
ما دفعني لكتابة هذا المقال، هو معرفتي أن إدارة الغضب مهارة أساسية و ليست رفاهية، ولا يعرف الكثير من الناس أن غيابها قد تكون السبب في الكثير من العثرات في الحياة.
لذلك إن كنت تعاني من الانفعال والعصبية، فهذه حصيلة أكثر من عشر سنوات أضعها بين يديك، تعلمت فيها أن الغضب ليس عدوًا مطلقًا، بل يمكن أن يكون حليفًا إذا أُدير بشكل سليم، بحيث لا نسجنه أو ندفعه من فرط الكبت للانقلاب علينا.
أسباب الغضب: ما الذي يشتعل في الداخل؟
تساءلت مرة في لحظة تأمل بعد عاصفة من الغضب: لماذا أغضب بهذه الطريقة؟ وهل ردة الفعل هذه هي حقيقتي، أم مجرد نمط ورثته من المحيط الغاضب حولي؟
لقد كان السؤال الثاني هو البوصلة التي وجهتني إلى اكتساب مهارة إدارة الغضب، فأنا أذكر نفسي منذ الطفولة طفلة جريئة وشجاعة تدافع عن حقها، وكنت أتلقى المديح من الآخرين بسبب ذلك، وعندما كبرت اتخذت من هذه الأفكار-بلا وعي-معتقدا راسخا، وهو أنه يجب أن أغضب وأنفعل حتى يبقى الآخرون يعتقدون أنني الفتاة القوية.
لكن ما الخاسر الوحيد في هذا الصراع الخفي؟ بلا ريب، أنا.
لقد وجدت نفسي أخسر فرص العمل والعلاقات بسبب الانفعال الظاهر أو المكبوت، والمفارقة المؤلمة أن هذا الشكل من الغضب لا يشبهني، بيد أن البذرة الأولى التي جعلتني أفهم كيفية إدارة الغضب والانفعال هي معرفة جذره الأساسي، وفي حالتي كان السبب؛ نمطا سلوكيا ورثته دون وعي.
لماذا نغضب؟
لا أقصد هنا الأسباب السطحية للغضب، مثل رد فعل على انسكاب القهوة على ردائك المفضل، أو تجاوز أحدهم لك في أزمة المرور وقت الظهيرة، أو محاولة أحد إهانتك على الملأ.
وإنما السؤال هنا ما هي الجذور النفسية الأعمق للغضب، والتي تؤدي في النهاية إلى التعبير عنه بطرق سيئة وربما مدمرة، مثل أن تعنف طفلك لأنه سكب العصير على الأرض دون قصد. تتنوع الأسباب وربما تتداخل مع بعضها، لكن هناك ثلاثة أسباب بارزة للغضب:
أولا: التجارب المؤلمة والجروح النفسية
الجروح المنسية لا يعني أنها شفيت. قد يمر البعض منا بصدمات والآم تبقى عالقة في عقولنا اللاواعية، خاصة تلك المرتبطة بالطفولة، مثل العنف والهجران والإهانة وأيضا الفقد والإهمال.
و باختلاف مراحل الحياة تعود هذه الجروح والالام المتراكمة التي لم تشفَ على شكل صورة غضب لا يمكن السيطرة عليه أو التعامل معه.
ثانيا: الضغوط النفسية والجسدية المتراكمة
الغضب أحيانًا يكون مجرد صرخة متأخرة، صرخة من جسد أنهكته المسؤوليات، ونفس امتلأت بما يفوق طاقتها، واحتياجات لم يتم تلبيتها.
نحاول أن نبدو بخير، نؤدي أدوارنا بإتقان، نبتسم ونقول: “كل شيء على ما يرام”، بينما الداخل ينهار بصمت.
حين لا يجد التوتر مخرجًا، ولا تُمنح الأحزان فرصة للتنفيس، تتراكم طبقة فوق طبقة، حتى يأتي موقف بسيط – نظنه تافهًا – فيفتح بوابة لكل ما كتمناه.
الغضب هنا لا يكون بسبب الحدث، بل بسبب ما سبقه.
تراكم النوم القليل، والقلق الدائم، والمهام المتلاحقة، والمشاعر المكبوتة، كلها تصنع خليطًا من الضغط الذي يبحث فقط عن شرارة ليشتعل.
ثالثا: الوراثة والتنشئة في بيئة غير صحية
نحن نشبه محيطنا إلى أن نعي ذلك.
بمعنى أن الأشخاص في كل منزل ما هم إلى نسخ متشابهة، فالأفعال وردود الأفعال تورث دون وعي، ولا يتغير الإنسان إلا حين يستيقظ فيه الوعي.
هذه الحالة التي عشتها أنا، لم تكن حصرا على أسرتي التي لا تعرف التعامل مع الغضب، بل هو صبغة في السلوك للكثير من المجتمع حولنا، فترى صورة الغضب ذاتها لا تختلف بين طفل صغير لم يحصل على اللعبة التي يريدها، وبين رجل تجاوز الستين أضاع مفتاح سيارته.
أما بالنسبة لتجربتي مع الغضب، لم يكن هناك تجربة واحدة، وإنما تجارب تحمل نمطا مكررا، كان في البداية يتخذ صورة الانفجار.
مثلا، إن أغضبني أحد، أنفعل عليه وأدخل في صراع للنيل منه بقوة اللسان، صحيح أنني كنت في الظاهر أنتصر، لكنني كنت أشعر أن هذا الرد لا يشبهني، وفي النهاية أبقى في صراع بين رغبتي في الدفاع عن نفسي، ورغبتي في الحفاظ على قيمي.
أو قد يأخذ نمط تعبيري عن الغضب بالانسحاب من كل ما يؤلمني، فمثلا إذا آذاني صديقي أفصله من حياتي بلا عودة، دون رغبة في سماعه أو حتى التعبير عن ما يزعجني، ثم أقلب صفحته من كتاب حياتي وكأنه لم يُكتب يوما فيها.
لقد ظننت في ذلك الوقت، أنني قوية وأتجاوز الجميع بسهولة، ولم أكن أعلم أن هذا الغضب تحول إلى شبح يلازمني دون أن أعرف بوجوده، حتى بدأ ينهش صحتي النفسية والجسدية.
لم يكن الأمر أنه ليس من حقي أن أغضب، لقد كان يجب أن أغضب، لكن كانت المشكلة لدي دائما في إدارة الغضب، ومنع الغضب من أن يتحول إلى تدمير ذاتي.
إدارة الغضب: فن التعبير عن انفعالاتنا بطريقة موزونة
والآن قد تتسائل: كيف تعلمت مهارة إدارة الغضب؟ و هل أصبحت هادئة أعيش في سلام داخلي أمارس اليوجا على سفح الجبل؟
في الحقيقة لا، فهذه الصورة النمطية ليست الهدف من إدارة الغضب. وإنما يتطلب الأمر رحلة ليست بالقصيرة لفهم الجروح الداخلي، وإعادة تهدئة العقل وبرمجته على ردود فعل جديدة.
كيف يكون ذلك؟
لقد تطلب مني الأمر تطبيق ثلاثة مراحل، وهي:
أولا: افهم مصدر غضبك
حتى أكون صادقة في هذا الأمر، من الضروري إدراك أنه ليس كل الأشخاص لديهم وعي كافي لمعرفة الدوافع الخفية وراء ردات أفعالهم، ويشمل ذلك الغضب.
لذلك يعد التواصل مع أخصائي نفسي خيارا فعالا، لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء الغضب.
كما يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي وسيلة فعالة في تحليل المواقف وكشف النقاط العمياء لمشاعرنا، وقد استفدت منه كثيرا.
حيث كنت أذكر له الموقف أو الشعور الذي أحس به، و أطلب منه أن يسألني عدة أسئلة عن الموقف، ثم يقدم لي التحليل النفسي لحقيقة مشاعري ودوافعي.
يمكن أيضا لجلسات التأمل واليقظة الذهنية أن توقظ اللاواعي لدينا، و تساعد بالتدريج على فهم النفس أكثر.
وهذا ما حدث معي بالضبط، فممارستي للتأمل جعلتني أدرك أن الغضب كان سببا في عرقلة حياتي، ولم يكن هذا الأمر مثل لحظة سحرية، وإنما نتيجة لتراكمات ممارسات التأمل.
قد تتسائل كيف أمار س التأمل وتطبيقات اليقظة الذهنية؟
الحقيقة لا يوجد أسهل من تعلمها، فمصادرها المجانية متوافرة في كل مكان على منصة يوتيوب.
ثانيا: طبق ممارسات العناية الذاتية
أنت حرفيا نتيجة ما تأكل وما تفكر.
وحتى تستطيع تغيير نفسك، وفي هذه الحالة إتقان إدارة الغضب، يجب أن تتغير من الداخل، والتغيير من الداخل يبدأ بتغيير ما يدخل معدتك، وما يدخل رأسك.
لا أطلب منك أن تأكل الخضار والخبز الأسمر طيلة الوقت، أو أن تشاهد البرامج الوثائقية فقط.
لا، لكن المطلوب منك أن تكون النسبة الأكبر من حياتك الجسدية والعقلية صحية.
بالنسبة لي، أقضي ستة أيام من الأسبوع أتناول الطعام الصحي، وامارس الرياضة-الرياضة صديقتي العزيزة التي تفرغ المشاعر السلبية بطريقة لا تتخيلها-وأترك يوما واحد أتناول فيه ما لذ وطاب.
يمكن أن تأخذ خيارا آخر وهو جيد، أن يكون يومك 80% طعاما صحيا، و20% طعاما غير صحي، مثل المثلجات اللذيذة أو لوح الشوكلاته المفضل لديك.
لا تنسى أن تنام ساعات كافية، إلى جانب ممارسة الرياضة والغذاء المتوازن، فهذه الثلاثية أساسية في إدارة الغضب والمشاعر بشكل عام.
ماذا عن العناية بالعقل؟
لا شك أن الحياة السريعة التي نعيشها الآن، ترهق عقولنا وأجسادنا، وتجعلنا أكثر عرضة للانفعال والتوتر، الذي يجعلنا ننفجر غاضبين.
لذلك نحتاج إلى أن نكون حذرين في التعامل مع فوضى المعلومات والصور والفيديوهات التي تخترق عقولنا كل يوم، وترهق جهازنا العصبي.
من تجربتي الشخصية، لم تكن القراءة فقط طريقة فعالة لفهم الذات بشكل عام وفهم غضبي وآلامي بشكل خاص، بل كانت وسيلة لتهدئة عقلي، وتعليمه كيف يرتب الأفكار والمشاعر.
إنني أخصص ساعة يوميا بعيدا عن الإنترنت والهاتف، هذه الساعة مهمة جدا لإراحة العقل من ضغط العالم الرقمي، أقضي منها نصف ساعة في القراءة الورقية.
ولا أضغط عليك لممارسة القراءة خلال هذه الساعة رغم أهميتها، إذ يمكنك أن تفعل ما تريد بعيدا عن الأجهزة الالكترونية، لكن يمكن أن تضرب عصفورين بحجر من خلال اكتساب المعرفة والهدوء العقلي.
وأخيرا، من أهم طرق العناية الذاتية لتعلم إدارة الغضب، التدوين الورقي، إنه مثل إخراج جميع الأمور العالقة في عقلك من أفكار الماضي والمستقبل والمخاوف، وجعلها أمامك وبين يديك، وكأنك قادر على فهمها والتحكم بها.
لا تستهين أبدا بالتدوين لا سيما اليدوي ونتائجه التراكمية على قدرتك على إدارة مشاعرك جميعها، وعلى رأسها الغضب.
وكنصيحة أخيرة، المحتوى القصير الذي تقضي ساعات بتصفحه، يعد سببا أساسيا في الإرهاق النفسي، لذلك قلل من الوقت الذي تقضيه في مشاهدة المحتوى السريع الذي لا يسبب إلا تعفن دماغك، وزيادة انفعالك.
ثالثا: الرفق مع النفس، فالأمر ليس سحرا
بالنسبة لي، لا توجد وعود بالتغيير المثالي والحالي، إنها تجربة حياتية عشتها في إدارة الغضب والتحكم به.
فنحن مبرمجون منذ طفولتنا على ردود فعل معينة، وإعادة البرمجة تتطلب وقتا.
لذلك، التغيير يتطلب الفهم والعناية الذاتية قبل كل شي، ثم ستجد نفسك تتعامل مع الغضب بالطريقة الصحية.
ومع ذلك هناك بعض النصائح التي يمكنك اعتمادها في لحظات الغضب، والتي سوف يرسخها الفهم والعناية الذاتية، بالإضافة إلى الممارسة المستمرة:
- اهدأ قليلا و خذ نفسا عميقا قبل الكلام أو الفعل.
- التربيت الخفيف على الذراع أو الكتف، يُرسل إشارة فورية للجسم: “اهدأ، أنت قادرة على السيطرة”
- عبر عن مشاعرك بحزم لكن لا تصرخ أو تتكلم بكلمات قاسية
- إذا كان بإمكانك مغادرة المكان غادر، أو اطلب تأجيل النقاش ريثما تهدأ
هذه الممارسات داعمة، لكنها ليست سحرا، قد تجد نفسك انفجرت غاضبا، وتشعر بالندم لاحقا، لذلك خطوة الرفق بالنفس مهمة، وثمار إدارة الغضب تأتي مع الوقت.
قصتي الشخصية مع إدارة الغضب
حصلت لي مؤخرا قصة عن التعبير عن غضبي بالطريقة الصحيحة، وسوف أشاركها معك.
لقد عشت في مجتمع يتدخل في أجسادنا، عندما تخسر الوزن أو عندما يزيد، و تجد الجميع يحرجك بعبارات على الملأ: “نصحانة”، أو “ليش ضعفتي مش حلو أبدا”.
لقد كانت ردة فعلي دائما إما انفعالا يخسرني العلاقات ممن حولي، أو سكوتا عندما كنت أصغر سنا لاعتقادي أنه تعليق عادي في مجتمعنا، لكن الحقيقة أنني كنت أكتم غضبي.
بدأت أتسائل، لماذا أغضب؟ والإجابة الواضحة، لأني كنت لا أشعر بالراحة من التعليق على جسدي، أسمع هذه التعليقات منذ مراهقتي، رغم أنني لم أكن سمينة، وذلك ما جعلني أشعر بالعار من جسدي.
وعندما كبرت وفهمت أن الدوامة الغير صحية التي دخلها جسدي كانت بسبب التعليقات الخارجية، قررت توجيه غضبي ووضع حد لكل من يحاول إعطاء رأيه في جسد الآخرين دون أن يطلب منه ذلك.
وبالفعل في العيد الماضي، علقت إحدى النساء أمام العائلة كلها قائلة: “كإنك نصحانة؟”، فما كان مني إلا أن أجبت بحزم ودون صراخ: أنا لا أحب سماع أي تعليق على جسدي، فهذا الأمر مؤذي جدا.
لقد كان ردي صارما، لكن دون أن أفتعل مشاجرة، ناهيك أنني لم أكتم غضبي حتى لا أفسد الجلسة.
لقد استطعت إدارة غضبي دون خسائر.
ختاما
أصبحت أكثر هدوءا في ردودي بعد رحلة طويلة من العناية الذاتية وفهم مسببات غضبي، حتى أصبحت بشكل تلقائي أستطيع التعامل مع مواقف الغضب بحكمة. لا انفجارا ولا كتمانا..والأهم لا مثالية، فقد أفقد البوصلة في لحظات نادرة جدا. لكن أعرف كيف أضع نفسي على الطريق الصحيح مجددا.. واليوم، أشعر أنني أكثر قوة من أي وقت مضى..
لقد تعلمت وفهمت..
أن الغضب ليس خطيئة، بل رسالة تشقّ طريقها من الألم إلى الفهم. وأن الكرامة لا تُحفظ بالصراخ، بل بالوعي متى نغضب، ولماذا، وكيف نعبّر. وأن الغضب حين نفهمه، لا يدمّرنا… بل يحمي ما تبقّى منّا. وأن القوة بالحزم الهادئ، لا بالصوت العالي والانهيار..
إذا شعرت أنك بحاجة لمعرفة أسباب غضبك الدفينة..حمّل تطبيق “استرحت” الآن وابدأ أولى خطواتك نحو مساحة أكثر هدوءًا، مع معالج نفسي أسري ليمد لك يد العون ويعينك على تخطي أزمتك بيسر. حمل “استرحت” الآن.