أسباب التعلق المرضي
سبتمبر 27, 2025

آخر تحديث :  

سبتمبر 27, 2025

آخر تحديث :  

أسباب التعلق المرضي: لماذا نتمسك بالعلاقات المؤذية؟

هل تجد نفسك شخصا متمسكًا بالعلاقات بشكل مبالغ فيه؟ تعرف في هذا المقال على أسباب التعلق المرضي، من خلال اكتشاف جذوره النفسية، العاطفية والاجتماعية التي تشكل نمطك العاطفي، ثم أجرِ لنفسك تقييما بخطوات عملية وقصيرة لتبدأ رحلتك نحو التحرر.
Dr. Kareem Sefati

راجع المقال

خريطة المقال

    يعتبر التعلق ذلك الجزء الفطري ذو الطابع الحميمي من العلاقات الانسانية والذي يتشارك فيه جميع البشر، لكن ما لا يتشاركه الجميع هو الطريقة التي يتشكل بها.

    عند البعض يظل صحيا ومتوازنًا، أما آخرين فيتحول إلى دائرة من الألم مُحكمة الإغلاق، وهنا قد لا تحتاج إلى قيد مرئي كي تبقى عالقًا، بل يكفي أن يؤمن عقلك أنه لا يستطيع الخروج. من هنا تنبثق الحاجة المُلحة التي تدفعنا إلى فهم وتحليل أسباب التعلق المرضي، لأنها الجذور التي تحول العلاقة من سند إلى كومة أعباء، وأن الاعتماد المفرط على الآخر ليس مجرد خيط من قصة عابرة، بل انعكاس لحياة نفسية تراكمية تحمل قصصاً من الألم داخلها. 

    لفك غموض الصورة نحتاج للتوقف عند جذور التعلق وكيف ينشأ من خلال هذا الدليل المفصل. 

    أسباب التعلق المرضي: لماذا ينشأ وكيف يتطور؟

    في مقال سابق عن التعلق المرضي، عرضنا الصورة الكاملة للتعلق أعراضه، أسبابه وطرق التحرر منه، واليوم سنقترب أكثر من العوامل التي تجعل الكثير يدخلون دوامة التعلق المرضي ولا يعرفون سبيلاً للخروج منها.

    يظن الكثير أن التعلق المرضي هو مجرد رغبة أو شعور عابر، وقد يطلق عليه البعض الآخر “الغيرة المرضية، الدلع، الدلال الزائد” ولكنها في الواقع كلها مسميات تصب في نهر واحد وهو “الاضطراب”، حيث يتضح من إطار العوامل المتعددة التي تقود إلى التعلق المرضي أن السبب فعلاً ليس حالة مزاجية لحظية، بل مزيج تأثيرات متراكمة تشمل البيئة، العلاقات، الضغوط المحيطة.

    أولاً: الجذور النفسية:

    تشمل الخلفيات الداخلية الغير مرئية للفرد، مثل الخبرات الصادمة المبكرة، الصدمات العاطفية خاصة طويلة المدى، ودرجة تقدير الذات والتي بدورها تحدد قدرة الشخص على إدارة عواطفه وتسييرها لبناء استقلاله العاطفي.

    ثانيًا: العلاقات الشخصية

    تلعب دوراً مكملا فيما يتعلق بأسلوب التفاعل مع الوالدين أو مقدمي الرعاية، الإخوة، الأصدقاء والشركاء الرومانسيين، الذي يدفع الفرد لبناء توقعات محددة للطريقة التي يجب أن يُعامل بها والتي تلعب دورا مهما في تفاقم اعتماده العاطفي على الآخرين.

    ثالثا: الظروف الحياتية

    تضم الأحداث والتغيرات المحيطة بالفرد، مثل ضغوط العمل، الفقدان، الانتقال أو العزلة، والتي يمكن أن تؤجج بشكل صارخ التعلق المرضي وتزيد من متانته.

    الظروف الحياتية:

    يجتمع هذا المزيج من العوامل ليُكون في نهاية المطاف دورة حياتية كاملة من الاعتماد العاطفي، تجعل الشخص يربط كل شعور حميمي بالأمان والسعادة بوجود الآخر. هذا ما يبرر لماذا لا يأخذ التعلق منحاه الطبيعي كشعور انساني نختبره دون أن نخشاه.

    ولفهم أسباب استمرار التعلق المفرط في الحياة اليومية، يصبح من الضروري التعمق في كل سبب على حدة، بدءً من الجذور النفسية، مروراً بالعلاقات الشخصية، ثم وصولاً إلى الظروف الحياتية التي تجعل السيطرة على هذا النمط تحديًا لوحده.

     

    الجذور النفسية: فهم تأثير الخبرات الداخلية على الاعتماد العاطفي

    تمتد أسباب التعلق المرضي لما هو أعمق بكثير مما تدركه العيون، لكن يدركه الزمن بل ويكشف آثاره، بالعودة فقط للجذور التكوينية في مرحلة الطفولة وصولاً للرشد، وطريقة تشكل ذات الفرد وعلاقاته يمكن تفسير لماذا يظهر التعلق بهذا الشكل، ولأجل فهم هذا التأثير بوضوح يمكن التوقف عند أربعة محاور رئيسية هي: 

    الصدمات طويلة المدى:

    الصدمات طويلة المدى، أو ما يعرف بصدمات الطفولة ويعرف علمياً باضطراب الضغط ما بعد الصدمة المعقد (Complex Ptsd)،  تعتبر نمطاً من التجارب المؤلمة والتي لا تقتصر على حدث واحد، بل هي سلسلة من الأحداث العنيفة لفظياً أو جسديا تتكرر بشكل مزمن مع الفرد، وليست مقتصرة أيضا على الطفولة ولكنها مؤثرة بشكل صارخ عليها.

    يجد الفرد المصدوم نفسه عالقًا في هذه الحالة داخل بيئة سامة يسودها التهديد، الإهمال أو الإساءة بأنواعها وسواء كانت هذه البيئة “أهل، أصدقاء، مدرسة..” غير مهم، ما يهم فعلا هي الإهانة المستمرة والتي تؤدي إلى تآكل الشعور بالأمان الداخلي وتصدع جدران ثقة الفرد في نفسه و الآخر، ومع الوقت تتطور لتُحدث تغييرات عميقة في الهوية والصورة الذاتية، محددة بذلك طريقة تفاعل الفرد مع الآخرين في السياق العلائقي.

    ترى الأبحاث في علم النفس أن الصدمات طويلة المدى من أثقل الأسباب المساهمة في نشأة التعلق المرضي، إذ تشير د. أرييل شوارتز (Schwartz) في كتابها (A Practical Guide to Complex PTSD) بأن النشأة مع صدمة الطفولة والصدمات المتكررة تُعيق الإبداع وتستبدل الفضول بالخوف. مع مرور الوقت، تؤثر مشاعر عدم الكفاءة على إحساسك بذاتك، وتصبح هويتك البديلة. 

    إن النشأة مع آباء أو أشخاص مضطربين، مسيئين أو مهملين تُشكل جهازًا عصبيًا ضعيفًا،  وتحوله من الوضع العادي للحساس لأقل إشارة قد لا تمثل خطراً من الأساس. يؤدي هذا إلى أنماط طويلة الأمد من الضيق العاطفي والفسيولوجي، تستمر حتى مرحلة البلوغ ثم الرشد. 

    تقدير الذات:

    يشكل تقدير الذات عاملاً محورياً في تشكيل كيفية ارتباطنا بالآخرين وبناء علاقاتنا. عندما يكون مستقراً وصحياً، فإنه يوفر بشكل تلقائي للفرد إحساساً داخلياً بالجدارة والاستحقاق، فيسمح له بالارتباط بالآخر دون خوف مفرط من الفقدان أو الحاجة المستمرة للإثبات. أما إذا كان ضعيفاً، فإن الشخص يبدأ بالبحث بشكل مفرط عن مصادر خارجية تمنحه الاعتراف والدعم، فيتجه إلى العلاقات العاطفية باعتبارها الوسيلة الأمثل لتعويض هذا النقص الداخلي. 

    تقدير الذات

    هذا النمط يجعله عرضة للتمسك الشديد بالشريك، وتضخيم أي إشارات للرفض أو التجاهل، حتى لو كانت عابرة أو غير مقصودة. 

    الدراسات، مثل دراسة  Murray et al (2002) عن كيف يقيد تقدير الذات عملية تعزيز العلاقات، التي أوضحت أن الأفراد ذوي تقدير الذات المنخفض يفسرون المواقف الاجتماعية العادية منها أيضاً بتهديد أعلى للرفض، و يشعرون بصعوبة في استيعاب طمأنة الآخر واحتوائه لهم. 

    بتكرار الأمر يدخل الفرد في حلقة مغلقة  كلما ازداد فراغه الداخلي وبعده عن ذاته زاد تشبثه بالآخر، وكلما زاد التشبث هذا تولد لديه شعور أعمق بعدم الكفاءة إذا واجه بروداً أو انتقاداً. هذا النمط يفتح الطريق لتشكل اعتماد عاطفي مرضي، حيث تُختزل بشكل متواصل قيمة الذات في استمرار العلاقة بدلاً من أن تُستمد من مصادر داخلية ثابتة، ما يُطلق عليها في علم النفس العلائقي بالقيم.

    بين الخوف من الهجر والرفض:

    أوضحت في هذا السياق Susan Johnson، رائدة العلاج العاطفي المرتكز على التعلق (EFT)، أن الإنسان كائن علائقي بطبعه، وأن شعوره بالأمان العاطفي هو ما يسمح له بالثبات والتوازن الداخلي. لكنها تشير أيضًا إلى أن غياب هذا الأمان، خصوصًا في المراحل المبكرة، يولد خوفًا متجذرًا لدى الفرد من فرضية أن يُترك أو يُرفض. 

    ولا شيء يمكن له تطمين هذا الخوف، بل يتحول إلى عدسة يفسر بها الفرد كل إشارة من الآخر. فمجرد تأخر شريك في الرد، أو تلبية شيء ما، تُقرأ على أنها علامة ممهدة لانسحاب أو تخلي.

    إن الأبحاث المنشورة في Journal of Anxiety Disorders دعمت هذا التصور أيضًا، حيث بينت أن الأفراد ذوي أنماط التعلق القلق يظهرون نشاطًا أعلى في مناطق الدماغ المسؤولة عن رصد التهديد الاجتماعي، كاللوزة الدماغية (Amygdala). هذا النشاط العصبي المفرط يفسر لماذا يشعر الشخص المتعلق وكأنه في حالة “إنذار دائم” لأي احتمال بالهجر أو الرفض والفقدان.

     

    الخوف من الرفض هنا ليس مجرد شعور بالنقص، بل هو انعكاس مؤلم لتجربة قديمة من عدم الاستقرار العاطفي. في العلاقات الراهنة، يتجلى ذلك في سلوكيات مثل الإفراط في المراقبة والتتبع وما يطلق عليه “الشك الزائد”، المطالبة المستمرة بالطمأنة، أو الانسحاب المفاجئ كآلية دفاعية يعتقد الفرد أنها تحميه من الألم قبل وقوعه. هذه الدوامة متشابكة الأطراف تجعل العلاقة مرهقة للطرفين، إذ يتحول الحضور العاطفي إلى اختبار متكرر لإثبات الأمان، بدل أن يكون مساحة للراحة والنمو، وإلى ميزان لقياس القيمة الذاتية.

    الروابط العاطفية: كيف تشكل علاقاتنا خريطة تعلقنا؟

    لا يكتمل مشهد تفسير أسباب التعلق المرضي إلا من خلال العبور من جسر الروابط العاطفية والعلاقات، وهو ما يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن لهذه الروابط أن تعيد إنتاج جروح قديمة تسلب الفرد سلامه النفسي؟

    التوقعات العاطفية:

    تجلس “أسماء” في غرفتها محبطة تعلو وجهها علامات اليأس، في كل مرة يتأخر خطيبها في الرد على رسائلها، كانت تشعر بغصة في صدرها، وكأنها عادت طفلة صغيرة تنتظر من يلتفت إليها. لم يكن الغياب لبضع ساعات هو المشكلة، بل الفكرة الراسخة في ذهنها أن الحب الحقيقي يعني حضورًا لا مشروطاً دائمًا، وكلمات مطمئنة في كل وقت، واستعدادًا لالتقاط همساتها قبل أن تنطق بها شفاهها. 

    التوقعات العاطفية

    مع مرور الأيام، أصبحت علاقتها محكومة بسلسلة من التوقعات العاطفية الثقيلة من الشريك تترصد لها كل حين: أن يبادر دائمًا، أن يعرف ما بداخلها دون أن تشرح، أن لا يخطئ في التوقيت أو التعبير، أن يهتم بإسهاب في كل زمن ومكان.

    من أين تعلمت “أسماء” كل هذا؟ أهكذا فعلاً يكون الحب، هذه الصورة المثالية جعلت أي تفصيلة صغيرة من شريكها تبدو كإشارة إلى فتور أو تراجع في الاهتمام. فبدل أن تكون العلاقة مساحة للراحة، تحولت إلى اختبار متكرر: هل حقًا يحبني؟ هل سيظل متمسكًا بي دائمًا؟ هذا النوع من التوقعات لا يعكس حقيقة الآخر بقدر ما يعكس جرحًا قديمًا أو حاجة لم تُلبَ في الماضي. وهنا يبرز سؤال لنا يستحق التوقف عنده: هل نبحث حقًا عن الحاضر مع من نحب، أم نحاول جاهدين سد فراغ  غيابٍ قديم من خلالهم؟

    تعتبر التوقعات العاطفية الصورة المسبقة التي يحملها الفرد تجاه شريكه والمتعلقة ب عما يجب لشريك العلاقة أن يقدمه لي، وكيف ينبغي له التصرف معي. التوقعات العاطفية هنا هي من أدت بأسماء تؤدي لتضخيم صورة الماضي وربطها بالشعور بالأمان، وهي التي تجعل الفرد يفسر غياب العلاقة كفقدان لا يعوض.

    وبذلك تصبح هذه التوقعات أحد المحركات الأساسية للتعلق العاطفي.

    ضعف الحدود:

    في كتاب ” فن الحب” يقول إريك فروم“الاتحاد دون استقلالية ليس حبًا، بل انهصار يذيب الذات” فيما معناه أن الاتحاد بين شخصين لا يعني الذوبان أو فقدان الاستقلالية، بل يعني التقاء شخصين ناضجين يملكان حدودًا واضحة، فيختاران القرب دون أن يبتلع أحدهما الآخر في دائرته، وتعني أن لي حياة بدونك و لك حياة بدوني و لنا حياة مشتركة نلتقي فيها. هذه الفكرة تسلط الضوء على أن ضعف الحدود أحد العوامل الجوهرية للتعلق المرضي.

    ونعني هنا بغياب الحدود مثلاً الاستجابة الفورية لاحتياجات الطرف  الآخر حتى لو على حسب راحتك والتزامك، الشعور بالذنب عند محاولة قول “لا” ، تحمل مسؤولية قرارات ومشاعر الطرف الآخر بشكل مبالغ فيه. فحين لا يميز الفرد بين ذاته وذات الآخر، يصبح الخط الفاصل بين القرب الطبيعي والانصهار غير الصحي هشًا قابلاً للاختراق في أية لحظة. عندها تتحول العلاقة إلى مساحة فقدان، حيث يُختزل الأمان الداخلي في وجود الآخر فقط، ويُنظر إليه كمصدر بقاء يتأرجح بين التطمين والطبطبة لا كشريك حياة صحي.

    غياب الحدود يجعل الفرد لا يجيد التمييز بين أين تنتهي ذاته وتبدأ ذات الشريك، ولا يعي حفًا بما يتعلق به من مشاعر، قيم وقرارات مقابل ما يخص شريكه، و بدل أن يطور قدرة على حماية نفسه والاعتناء باحتياجاته بشكل متوازن، يبقى عالقاً في التغذي على بقاء الآخر معه ليل نهار.

    نمط الضحية والمنقذ:

    هل تساءلت يومًا هل يمكن للحب أن يزدهر في علاقة عنوانها ” أنا المنقذ وانت الضحية أو العكس؟” لماذا تجذب بعض العلاقات نمط الضحية والمنقذ كأنها لعبة أدوار متكررة؟ لابد أنك شاهدت فيلم  Titanic، متأكدة من أنك فعلت.

    نمط الضحية والمنقذ

    رغم أن “روز” لم تُظهر نفسها كضحية بشكل مباشر، فإن تفاصيل حياتها تكشف هشاشة داخلية تجعلها أقرب لهذا الدور المبطن. فهي محاصرة بتوقعات عائلية صارمة، ومرتبطة بخطوبة لا تعكس رغبتها الحقيقية في الارتباط. في علاقتها ب”جاك”، لم تكن المنقِذة ولا المنقَذة بشكل صريح، بل مزيجًا من الطرفين، كانت تبحث عن الخلاص من قيدها الاجتماعي، بينما “جاك” قدم نفسه لها كنافذة على الحرية والانعتاق. هذه التركيبة المعقدة ليست مجرد حبكة درامية بل إنعكاسا واضحًا لما نشرحه، وهو أن أنماط الضحية والمنقذ لا تكون دائمًا ظاهرة، بل قد تختبئ تحت السطح في صورة رومانسية مثالية، لكنها تزرع بذور التعلق المفرط حين يختلط الحب برغبة عميقة في النجاة من أي قيد كان.

    بمرور الوقت، يتحول هذا النمط إلى سبب رئيسي للتعلق غير الصحي، لأن العلاقة تبنى على اختلال الأدوار بدل التكامل. الطرفان يعيشان في مسرحية متواصلة، يقاس في خشبتها الحب بالتضحية المفرطة أو بالاستجداء العاطفي، لا بالندية والوعي للأفعال وعواقبها،  ولأن خزان التحمل قد لا يكفيك طول العلاقة.

    في دراسة نُشرت في BMC Psychology عام 2025 حول Associations between childhood maltreatment and personality traits بينت أن الأشخاص الذين عانوا من رعاية سيئة maltreatment في الطفولة، بما في ذلك الإهمال العاطفي أو الجسدي، يميلون إلى أنماط شخصية تتصف بتوتر عاطفي، ضعف الحدود، وشعور مستمر بالمسؤولية تجاه الآخرين وتحمل أعبائهم. 

    النتيجة هنا أن العلاقة تصبح اختبارًا يوميًا: هل أنقذتُ كفاية؟ هل سمح لي الآخر بالوجود كما أنا؟

    اندماج الهوية:

    رغم أن اندماج الهوية قد يبدو شبيهًا لضعف الحدود في الوهلة الأولى، إلا أن الفرق جوهري؛ اندماج الهوية يمس بنية الذات ويشكل حسب أرون بيك في علم النفس المعرفي المثلث الفردي ذي الزوايا الثلاثة: طريقة الشخص في رؤية نفسه وعلاقاته والمحيط، بينما ضعف الحدود يتعلق أكثر بالسلوك والتفاعل اليومي مع الآخرين. 

    يحدث اندماج الهوية عندما يذوب الفرد في الآخر إلى حد فقدان إحساسه المستقل بـ”من أنا؟”، ويصبح تعريفه لذاته مرتبطًا بالكامل بما يريده أو يتوقعه الطرف الآخر. هنا تتحول القرارات اليومية والقيم والأولويات إلى انعكاس لرغبات الآخر بدلًا من الرغبات الشخصية، مما يخلق اعتمادًا وتماهيًا كليًا يجعل الانفصال أو الخسارة أشبه بتهديد وجودي حتمي. هذا النمط يعد من أبرز أسباب التعلق المرضي لأنه يرسخ شعورًا بالفراغ الداخلي والقلق المستمر، ويجعل الشخص غير قادر على تطوير حياة مستقلة أو تقدير ذاته خارج العلاقة. وفقًا لما ذكره عالم التحليل النفسي النمساوي ألفرد أدلر، “الشخص الذي يذوب في الآخر يفقد القوة اللازمة ليعيش حياته الخاصة”، مما يوضح فعلاً كيف يمكن لاندماج الهوية أن يحول الحب من مصدر للنمو إلى مصدر للارتباط المرضي المستمر.

    اندماج الهوية

    البيئة المحيطة: كشف أثر المحيط على سلوكيات التعلق المفرط

    تلعب البيئة دوراً حاسمًا في استجابات الفرد المرضية وتعميق نمط اعتماده العاطفي على الآخر من خلال:

    الصدمات الطارئة:

    الصدمات الطارئة، أو ما يطلق عليه علميا Situational Trauma هي أحداث مفاجئة تهز استقرار الشخص النفسي، مثل: حوادث، خسائر مفاجئة، أو أزمات مفاجئة في العمل أو العائلة. هذه الأحداث تعمل كمحفزات أو محركات صدمية تؤثر بشكل مباشر على التعلق العاطفي. 

    بعض هذه المحركات يكون وقائيًا نافعًا، أي أنها تدفع الفرد لتجنب أي مواقف مشابهة قد تسبب ألمًا مستقبليًا، مثل الانسحاب الاجتماعي أو مقاومة الانفتاح العاطفي. بينما تكون الكثير منها سبباً في زيادة استجابة التعلق المفرط مؤقتًا كرد فعل لحالة الخطر الحالية، مثل: اللجوء المفرط للشريك للحصول على الأمان والدعم العاطفي، الانسحاب المفاجئ، محاولة السيطرة والقلق الزائد. هذه المحركات وعلى الرغم من طبيعتها العابرة في الكثير من الأحيان لكنها تترك أثرًا طويل المدى على نمط العلاقة، ما يحول التجارب المؤقتة إلى نمط دائم يصعب فصله عن حياتهم اليومية.

    متطلبات الحياة المهنية:

    في عالم اليوم وحيث تتسارع الوتيرة المهنية وتزداد متطلباتها، فإن الحفاظ على علاقة صحية يعتبر تحديًا جنباً لجنب مع التحديات المادية، تُظهر دراسة نشرت في مجلة Human Relations أن تأثير ساعات العمل الطويلة على جودة العلاقة العاطفية بين الشريكين لا يعتمد فقط على عدد الساعات التي يقضيها الفرد في العمل، بل على كيفية استثمار الوقت المتبقي مع الشريك. 

    متطلبات الحياة المهنية

    في دراسة شملت 285 زوجاً من الأزواج العاملين، أظهرت أن الأزواج الذين يعملون ساعات طويلة فإن ذلك لا يمنعهم من الحفاظ على علاقة عاطفية قوية إذا أولوا اهتمامًا لجودة الوقت الذي يقضونه معًا بعد العمل،المفتاح يكمن في جعل الوقت المشترك ذا قيمة، مما يعزز الروابط العاطفية بينهما. ومع ذلك، فإن غياب هذا التوازن قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على العلاقة، خاصة إذا كانت ساعات العمل تمتد إلى ما بعد المساء أو إذا كانت هناك ضغوط عمل مستمرة.

    فإذا كنت تشعر أن ضغوط العمل تؤثر على علاقتك، فربما حان الوقت لإعادة تقييم أولوياتك!

    العزلة النفسية:

    تؤثر العزلة النفسية على تبلور التعلق المرضي من خلال وجهين:

    الوجه الأول: الانكماش على الذات

    عندما يفتقر الشخص إلى التفاعل الاجتماعي والدعم النفسي، تتعاظم لديه مشاعر الوحدة والفراغ الداخلي. هذا الانكماش يجعل الفرد يبحث بقوة عن أي مصدر للأمان العاطفي، غالبًا من الشريك أو الأشخاص المقربين، لتعويض الشعور بالنقص. هنا يظهر التعلق المرضي مرة أخرى كآلية دفاعية يطلق عليها في التحليل النفسي اسم “Compensatory Attachment” أي التعلق التعويضي ضد الشعور بالضياع والوحدة.                       

    الوجه الثاني: التفاعل المفرط مع الآخر

    نقص التواصل الاجتماعي يقلل من فرص معالجة المشاعر بشكل طبيعي، فيتضخم توقع الفرد واحتياجاته العاطفية تجاه الآخر. يصبح أي غياب، رفض، أو تأخير في التفاعل مع الشريك بمثابة تهديد كبير للأمان النفسي، لأنه هو مصدر العطاء الوحيد بالنسبة له مما يعمق دائرة التعلق المفرط ويزيد القلق، الغيرة، وحساسية الفرد تجاه أي شيء.

    كل هذه المحركات تلعب دوراً مهما في تفسير جذور التعلق العاطفي، فهي تعمل معاً لتزيد من احتمالية الاعتماد والتماهي داخل الشريك، وفهم هذه العوامل يساعد على إدراك أصل الصورة السلوكية المشوهة ويمهد لبدء العلاج الفعال.

    كيفية معرفة نمطك العاطفي: كيف تساعدك الأسئلة القصيرة على ذلك؟

    لا شك أنك وصلت لهنا وكلك رغبة في معرفة مدى اعتمادك العاطفي على الآخرين أليس كذلك؟

    أولاً: أسئلة التقييم الذاتي:

    إليك بعض الأسئلة القصيرة لتقييم نفسك بسرعة. أجب بـ “نعم” أو “لا” وانظر ما تكشفه إجاباتك عن نمط تعلقك العاطفي.

    العبارات نعم لا
    هل تشعر بالقلق إذا لم يرد أحد المقربين عليك فورًا؟
    هل تميل إلى التحقق المستمر من تواجد الشريك أو المقربين منك؟
    هل تتجنب القيام بأنشطة بمفردك خوفًا من الشعور بالوحدة؟
    هل تجد صعوبة في قول “لا” أو وضع حدود للآخرين؟
    هل تشعر أن قيمتك مرتبطة بمدى اهتمام الآخرين بك؟
    هل تجد صعوبة في الاستمتاع بالحياة إذا لم يكن شخص قريب منك متواجدًا؟

     

    ثانيًا: ماذا تعني اجاباتك؟

    – كل “نعم” تشير إلى ميل للتعلق المفرط أو الاعتماد العاطفي الزائد على الآخرين.

    -أكثر من 3 إجابات “نعم” قد تشير إلى وجود أنماط تعلق مرضي تستدعي التقييم الذاتي والعمل على تعزيز الاستقلال العاطفي.

    -الإجابات “لا” تدل على مستوى صحي من الاكتفاء الذاتي والقدرة على إدارة العلاقات العاطفية بشكل متوازن.

    الأسئلة الشائعة حول أسباب التعلق المرضي 

    وبعد كل هذا أعلم أنه قد تكون لديك أسئلة تدور في بالك حالاً حول أسباب التعلق المرضي، لذلك جمعنا لك أهم الأسئلة الشائعة وكيف أجاب علم النفس عنها.

    هل التعلق المرضي سببه الحب الزائد؟

    الحقيقة لا الحب ليس هو المشكلة، بل غياب التوازن في إعطاء هذا الحب هو ما يسبب هذا الاعتلال. التعلق الغير صحي لا يمكن أن يعكس أبداً قوة الحب ومدى وفاء الآخر، ما يعكسه حقاً هو الفراغ الذي يحاول أحد الطرفين جاهداً ملأه بالآخر.

    هل التعلق بشخص يعتبر مرض نفسي؟

    التعلق بشخص ليس مرضاً نفسياً، بل هو فطرة انسانية عادية، ما يحول بينه وبين المرض هي الأسباب التي تناولناها مثل: الصدمات العاطفية، الخوف من الرفض والفقد والشعور بانعدام القيمة وغيرها.

    لماذا أتعلق بشخص رغم معرفتي بأنه لا يحبني؟

    في كثير من الحالات ترجع أسباب التعلق المرضي بشخص نحن على يقين أنه لا يبادلنا نفس المشاعر هو ضرب من ضروب محاولة تعبئة شعور نقص قديم ، من خلال محاولة بائسة لإثبات الكفاءة بأنك تستحق أن تُحب، وبذلك فإن جهازك العصبي يحول الأمر إلى تحدٍ، وهو مرتبط غالبًا بالخوف من الرفض، وهو ما يجعل السعي وراء الآخر وسيلة دفاع نفسية مختلفة.

    خلاصة القول: أن التعلق المرضي هو محاولة لملء جرح قديم 

    وأن الجروح التي لم تلتئم تبقى تضرم النار في حاملها للأبد، لذلك وفي تطبيق استرحت، نقدم لك خطة علاجية شخصية مدعومة بأدوات علمية وتقنيات عملية تساعدك على فهم نمطك العاطفي، استعادة توازنك، وتعزيز استقلاليتك النفسية بطريقة آمنة وفعّالة، والأهم منذلك الحفاظ على خصوصيتك. ابدأ رحلتك معنا نحو الحرية العاطفية اليوم.

    انضم إلى أكثر من 2000 قارئ يبحثون عن راحة حقيقية وصوت داخلي مسموع، وابدأ رحلتك بمتابعة أحدث المقالات والأدلة النفسية التي تُكتب لك، لا عنك.

    أخصائية ومعالجة نفسية متخصصة في دعم الأفراد لفهم أنماط التعلق غير الصحية وتحرير أنفسهم من العلاقات المؤذية. بخبرة عملية في تقديم الجلسات العلاجية الفردية والجماعية، تجمع روفيدة بين الأسلوب العلمي المبسط والدعم الإنساني العميق. تؤمن بأن العلاج النفسي مساحة آمنة لاكتشاف الجذور العاطفية، بناء صورة ذات صحية، وتعلم طرق ارتباط متوازنة تعيد للفرد طاقته وكرامته.

    توقف قليلًا… واقرأ هذا:

    فك التعلق المرضي

    فك التعلق المرضي: برنامج عملي للتعافي ومنع الانتكاس

    هل تشعر بأن تعلقك بشخص معين يعيق حياتك؟ تعرف على خطوات عملية لـ فك التعلق المرضي، تثبيت التعافي، ومنع الانتكاس بطريقة عملية وسهلة التطبيق.
    علاج التعلق المرضي

    علاج التعلق المرضي: من الوعي للتعافي الحقيقي

    التعلق المرضي ليس حباً، بل نداء صاخب من الألم الداخلي يحتاج إلى شفاء. تعرف على خطة علاج التعلق المرضي خطوة بخطوة من الجذور النفسية حتى بناء الاستقلال العاطفي.
    أعراض التعلق المرضي

    أعراض التعلق المرضي: علامات تكشف فقدانك للاستقلال النفسي

    هل تعلقك بشخص ما يستهلكك؟ اكتشف معنا في هذا الدليل المفصل أهم أعراض التعلق المرضي، كيف تلاحظها مبكرًا وتتعرف على أبرز علاماتها، ومتى تحتاج المساعدة بناءً على الفحص الذاتي المُقدم .

    هل وصلت لنقطة تحتاج فيها من يسمعك فعلًا؟

    استرحت ليس بديلاً عن العيادة فقط… بل البداية التي تُشبهك: جلسات فورية، بدون تسجيل، مع مختصين يفهمونك.

    حمّل التطبيق الآن وابدأ أول خطوة نحو راحتك.